سورة النحل - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


يقول الحقّ جلّ جلاله: {والله خلقكم}: أظهركم إلى عالم الشهادة، {ثم يتوفاكم}: يردكم إلى عالم الغيب عند انتهاء آجالكم، {ومنكم مَن يُردُّ إلى أرذَلِ العُمُرِ} أي: أخسه، يعني: الهِرَم والخرف، الذي يشابه الطفولية في نقصان القوة والعقل. وقيل: هو خمس وتسعون سنة، وقيل: خمس وسبعون سنة، والتحقيق: أن ذلك لا ينضبط بسن. {لكي لا يَعْلَم بعد عِلْمٍ شيئًا}؛ ليصير إلى حالة شبيهة بحالة الطفولية، في نقصان العقل والنسيان وسوء الفهم. وليس المراد نفي العلم بالكلية، بل عبارة عن قلة العلم؛ لغلبة النسيان. وقيل: المعنى: لئلا يعلم زيادة على علمه شيئًا. قال عكرمة: (من قرأ القرآن لم يصر بهذه المنزلة).
قلت: جاء في بعض الأحاديث ما يقتضي تخصيص القارئ للقرآن بالمتبع له، وأنه الذي يُمتعه الله بعقله حتى يموت، وهو الذي يشهد له الحس، أي: الوجود في الخارج، بالصدق، لوجود الخرف في كثير ممن يحفظه. قاله في الحاشية.
{إن الله عليم قدير} أي: عليم بمقادير الأشياء وأوقاتها، قدير على إيجاد الأشياء وإعدامها، عند انتهاء آجالها، فيميت الشاب النشط عند تمام أجله، ويبقى الهرم الفاني إلى انقضاء أجله. قال البيضاوي: وفيه تنبيه على أن تفاوت أعمار الناس ليس إلا بتقدير قادر حكيم، ركب أبنيتهم، وعدل أمزجتهم، على قدر معلوم، ولو كان في ذلك بمقتضى الطبائع لم يقع التفاوت إلى هذا المبلغ. اهـ.
الإشارة: الخلق والتوفي هو من جملة الظهور والبطون، عند أهل التوحيد الخاص، والرد إلى أرذل العمر لا يلحق العارفين بالله. وقد قيل، في استثناء قوله: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [العَصر: 3] من الرد إلى أسفل سافلين: إن الصالح لا يدركه الخَرف وإن أدركه الهرم. وذلك دليل على سعادته، وعدم تشويه صورته في الآخرة، والله تعالى قادر على وقاية أوليائه مما يشين به أعداءه عاجلاً. وفي الحديث: «إذا قرأ الرجلُ القرآنَ، واحتْشَى من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم- أي: امتلأ- وكانتْ هناك غزيرةٌ- يعني: فقه نفس ومعرفة-، كان خليفةً من خلفاء الأنبياء».


يقول الحقّ جلّ جلاله: {والله فضَّل بعضكم على بعض في الرزق}، فمنكم غني ومنكم فقير، ومنكم ملوك مستغنون عن غيرهم، ومنكم مماليك محتاجون إلى غيرهم، {فما الذين فُضِّلوا}؛ وهم الموالي، أي: السادات، {برادِّي رِزقهم}: بمعطي رزقهم {على ما ملكتْ أيمانُهم}: على مماليكهم، أي: ليس الموالي بجاعلي ما رزقناهم من الأموال وغيرها، شركة بينهم وبين مماليكهم، {فهُم} أي: المماليك {فيه سواءٌ} مع ساداتهم. وهو احتجاج على وحدانيته تعالى، وإنكارٌ ورد على المشركين، فكأنه يقول: أنتم لا تسَوّون بين أنفسكم وبين مماليككم في الزرق، ولا تجعلونهم شركاء لكم، بل تأنفون من ذلك، فكيف تجعلون عبيدي شركاء لي في ألوهيتي؟! وهذا كقوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} [الرُّوم: 28]. ويحتمل أن يكون ذمًا وعتابًا لمن لا يحسن إلى مملوكه، حتى يرد ما رزقه الله عليه، كما في الحديث: «أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون».
{أفبنعمة الله يجحدون}، حيث يجعلون له شركاء، فإنه يقتضي أن يضاف إليهم بعض ما أنعم الله عليهم، ويجحدوا أنه من عند الله، أو حيث أنكروا هذه الحجج، بعد ما أنعم الله عليهم بإيضاحها، أو حيث بخسوا مماليكهم مما يجب لهم من الإنفاق. على التفسير الثاني.
الإشارة: والله فضَّل بعضكم على بعض في أرزاق العلوم، والأسرار والمواهب، فمنكم غني بالله، ومنكم فقير منه في قلبه، ومنكم عالم به ومنكم جاهل، ومنكم قوي اليقين ومنكم ضعيف، فما الذين فُضِّلوا بالعلوم اللدنية والأسرار الربانية برادِّي تلك العلوم على الجهلة وضعفاء اليقين، بأن يُطلعوهم على أسرار الربوبية قبل استحقاقها- فإن ذلك بخس بحقها- حتى يرونهم أهلاً لها؛ بأن يبذلوا لهم أنفسهم وأموالهم، ويملكون لهم رقابهم يتصرفون فيها تصرف المالك في مملوكه، فحينئذ يشاركونهم فيما منحهم الله من أرزاق العلوم وأسرار الفهوم، وقد قيل: لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.
سأكْتُمُ عِلْمِي عَنْ ذَوِي الجَهْلِ طَاقَتِي *** ولا أنْثُرُ الدُرّ النَّفيس على البَهم
فإنْ قَدَّر اللهُ الكَريمُ بِلُطْفِهِ *** ولاقَيتُ أهلاً للعُلُوم وللحِكَمْ
بَذلْتُ عُلُومِي واستَفَدْتُ عُلومَهُم *** وإِلاَّ فمخْزُونٌ لَدَيّ ومُكْتَتمْ
فمَنْ مَنَحَ الجهّالَ عِلْمًا أَضَاعَهُ *** ومَنْ مَنَعَ المستوجِبين فَقَد ظَلَمَ


قلت: الحفدة: جمع حافد، وهو الخديم المسرع في الخدمة، والحفْد في اللغة: الخدمة، ومنه في القنوت: وإليك نسعى ونحفد، أي: نسرع في خدمتك. وسموا أولاد الأولاد حفدة؛ لأنهم يُسرعون في خدمة جدهم، حين كبر ولزم الدار، وقيل: هم البنات؛ لأنهن يخدمن الدار.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجًا}؛ حيث خلق حواء من ضلع آدم، وسائر النساء من نطفة الرجال، والنساء خلقهن لكم، لتتأنسوا بهن، ولتتمتعوا بهن في الحلال، وليكون أولادكم مثلكم. {وجعل لكم من أزواجكم بَنين} من صلبكم {وحفَدةً}؛ أولاد أولادكم أو بناتكم؛ فإن البنات يخدمن في البيوت أشد الخدمة، أو الأصهار من قِبل النساء، أو الخدَم، {ورزقكم من الطيبات}؛ من اللذائذ والمشتهيات؛ كأنواع الثمار والحبوب والفواكه، والحيوان؛ أكلاً وركوبًا وزينة، أو الحلالات، و {من}: للتبعيض؛ فإن طيبات الدنيا أنموذج من نعيم الآخرة. {أفَبِالباطل يؤمنون} وهو أن الأصنام تنفعهم؛ لأن الأصنام باطلة لا حقيقة لوجودها، وإضافة النفع لها: كفرٌ بنعمة الله، ولذلك قال: {وبنعمة الله هم يكفرون}؛ حيث أضافوها إلى أصنامهم، أو حيث حَرَّموا منها ما أحله الله لهم كالبحائر والسوائب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: والله جعل لكم من أنفسكم المطهرة أصنافًا من العلوم اللدنية. قال أبو سليمان الداراني: (إذا اعتقدت النفوس على ترك الآثام، جالت في الملكوت، ثم عادت إلى ذلك العبد بطرائف الحكمة، من غير أن يؤدي إليها عالم علمًا). وجعل لكم من تلك العلوم بنين روحانيين، وهو التلامذة، يحملون تلك العلوم، وحفدة: من ينقل ذلك عنهم إلى يوم القيامة، ورزقكم من الطيبات، وهي حلاوة المعرفة عند العارفين، وحلاوة الطاعات عند المجتهدين. أفبالباطل- وهو ما سوى الله- يؤمنون، فيقفون مع الوسائط والأسباب، ويغيبون عن مسبب الأسباب، وبنعمة الله- التي هي شهود الحق بلا وسائط- هم يكفرون.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11